في سنة 609 هجرية، الموافق 1212 ميلادية، شهد التاريخ الإسلامي واحدة من أكثر المعارك تأثيرًا في مصير الأندلس والمغرب الإسلامي، وهي معركة العقاب، المعروفة أوروبيًا باسم معركة “لاس نافاس دي تولوسا”. لم تكن هذه المعركة مجرد مواجهة عسكرية عابرة بين المسلمين والنصارى، بل كانت نقطة تحول حاسمة غيّرت موازين القوى في الغرب الإسلامي، وأسهمت بشكل مباشر في إضعاف دولة الموحدين، التي كانت في ذلك الوقت واحدة من أعظم الدول الإسلامية التي حكمت المغرب والأندلس لقرابة قرن ونصف.
هزيمة الموحدين في معركة العقاب لم تفتح الطريق فقط أمام التوسع القشتالي داخل الأندلس، بل أدت كذلك إلى تفكك الدولة الموحدية من الداخل، وظهور كيانات سياسية جديدة على أنقاضها. ومن رحم هذا الانهيار ووسط هذا الفراغ السياسي، برزت الدولة الحفصية كواحدة من أهم الدول الإسلامية التي حكمت شمال إفريقيا، واتخذت من تونس عاصمة لها، واستمرت في الحكم لما يقارب 354 سنة، تاركة أثرًا سياسيًا وعلميًا وحضاريًا لا يمكن تجاهله.
في هذا المقال، نأخذك في رحلة تاريخية جديدة ضمن سلسلة “دول إسلامية غير معروفة”، لنكشف قصة الدولة الحفصية: كيف نشأت، ومن هم مؤسسوها، وما هي أسس حكمها، وكيف تحولت من ولاية تابعة إلى دولة مستقلة، ثم إلى خلافة تنافس كبريات القوى الإسلامية، قبل أن تسقط في النهاية بفعل عوامل داخلية وخارجية، في مشهد يتكرر كثيرًا في صفحات التاريخ.
---
من هم الحفصيون؟ الجذور والنسب
اختلف المؤرخون اختلافًا واضحًا حول نسب أمراء بني حفص وأصولهم، وهو أمر شائع في تاريخ الدول الإسلامية التي سعت لاكتساب الشرعية السياسية والدينية في آن واحد. من أشهر الآراء في هذا الشأن ما ذكره المؤرخ ابن نخيل، أول كاتب لديوان الدولة الحفصية، والذي أرجع نسب الحفصيين إلى الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذا الرأي لم يكن مجرد ادعاء عابر، بل كان جزءًا من خطاب سياسي هدفه تدعيم مشروعية الحكم الحفصي، خاصة في ظل التنافس على الخلافة بعد انهيار الموحدين وسقوط بغداد لاحقًا.
في المقابل، يرى عدد من المؤرخين أن أصل الحفصيين يعود إلى قبيلة هنتاتة، وهي إحدى كبريات قبائل البربر في المغرب، وكانت تسكن جبال درن قرب مراكش. وهذا الرأي يعكس واقع التركيبة الاجتماعية والسياسية في المغرب الإسلامي، حيث لعبت القبائل البربرية دورًا محوريًا في قيام الدول وسقوطها. وبغض النظر عن صحة أي من النسبين، فإن الثابت تاريخيًا أن الحفصيين كانوا من النخبة السياسية والعسكرية، وتمتعوا بنفوذ واسع منذ عهد الدولة الموحدية، ما مهد لهم الطريق لتأسيس دولتهم الخاصة لاحقًا.
---
التأسيس السياسي وبداية الاستقلال
تعود البذرة الأولى لقيام الدولة الحفصية إلى فترة حكم الخليفة الموحدي الناصر بن المنصور، عندما عيّن أبا محمد عبد الواحد بن أبي حفص واليًا على إفريقية، ومنحه صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها وقمع الثورات التي أشعلها بنو غانية وحلفاؤهم من العرب. وقد اشترط أبو محمد شروطًا ذكية قبل تولي المنصب، من أبرزها منحه حرية كاملة في إدارة الجند، وعدم تدخل الخليفة في شؤون الولاية من حيث العزل أو التعيين، وهو ما قبله الخليفة دون إدراك للعواقب السياسية المستقبلية.
ومع مرور الوقت، تحولت هذه الولاية شبه المستقلة إلى حكم وراثي داخل أسرة بني حفص، خصوصًا بعد ضعف السلطة المركزية للموحدين. لكن الانفصال الرسمي لم يحدث إلا في عهد أبي زكريا الحفصي، شقيق أبي محمد، الذي أعلن استقلال الدولة الحفصية سنة 626 هجرية، الموافق 1229 ميلادية. وجاء هذا الإعلان في لحظة تاريخية فارقة، حيث كانت الدولة الموحدية تعاني من الانقسامات الداخلية، ورفض الخليفة تعاليم ابن تومرت، مؤسس الدولة الموحدية، بل وأزال اسمه من الخطبة وسك العملة، ما أثار غضب أتباعه ومعارضيه على حد سواء.
هذه الظروف مجتمعة جعلت من إعلان الاستقلال خطوة محسوبة بدقة، خاصة مع تصاعد المعارضة داخل الدولة الموحدية، وقيام الخليفة بقتل عدد من المعارضين المنتمين إلى نفس قبيلة الحفصيين، وهو ما عجّل بقرار الانفصال، وأكسبه بعدًا سياسيًا وثأريًا في آن واحد.
---
التوسع، الخلافة، وبداية التراجع
بعد الاستقلال، اتخذ أبو زكريا خطوات سياسية ذكية، كان من أبرزها تبني تعاليم ابن تومرت وإعادة اسمه إلى الخطبة وسك العملة، في محاولة لوراثة الشرعية الموحدية بدل الصدام المباشر معها. كما نجح في القضاء على بقايا بني غانية، وبسط نفوذه على تلمسان، وتلقى البيعة من طنجة، بل وحتى من بني مرين أنفسهم، في تحالفات عكست دهاءً سياسيًا نادرًا.
امتد نفوذ الدولة الحفصية ليشمل أجزاء من الأندلس، حيث بايعه ولاة شرق الأندلس وإشبيلية والمرية، ووصلت استغاثات المسلمين من بلنسية التي كانت تتعرض لهجمات صليبية شرسة. وقد لبّى أبو زكريا النداء، وأرسل حملة بحرية لدعم المدينة، إلا أن الحصار المحكم الذي فرضه النصارى حال دون إنقاذها، فسقطت المدينة في النهاية، في مشهد يعكس تعقيدات الصراع الإسلامي-الأوروبي في تلك المرحلة.
بلغت الدولة الحفصية ذروة قوتها حين أعلنت نفسها خلافة، مستفيدة من سقوط بغداد بيد المغول، وغياب الخلافة العباسية كرمز موحد للعالم الإسلامي. لكن هذه القوة لم تدم طويلًا، إذ بدأت عوامل الضعف في الظهور، وعلى رأسها النزاعات الداخلية على الحكم، وضعف الولاة، وفرض الضرائب الباهظة، إلى جانب التمسك بالعقيدة التومرتية التي رفضها كثير من علماء وأهالي شمال إفريقيا بعد انكشاف زيفها.
---
الخلاصة
تمثل الدولة الحفصية نموذجًا واضحًا لدولة نشأت من رحم الانهيار، واستفادت من الفراغ السياسي، ونجحت في بناء كيان قوي استمر أكثر من ثلاثة قرون. جمعت هذه الدولة بين الذكاء السياسي، والشرعية الدينية، والقوة العسكرية، لكنها في الوقت نفسه لم تنجُ من سنن التاريخ التي تقضي بأن الظلم، والانقسام الداخلي، والانحراف الفكري، عوامل كفيلة بإسقاط أعظم الدول.
سقوط الدولة الحفصية لم يكن حدثًا مفاجئًا، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من الضعف الداخلي والتحديات الخارجية، وهو درس تاريخي متكرر يؤكد أن دوام الحال من المحال، وأن بقاء الدول مرهون بالعدل، والوحدة، وحسن الإدارة.
---
رابط المصادر
المصدر الأول اضغط هنا
المصدر الثاني اضغط هنا
Elmoarekhh