يُعدّ التاريخ الإسلامي بحرًا واسعًا زاخرًا بالأحداث والتجارب السياسية والحضارية التي لا تزال كثير من فصولها بعيدة عن اهتمام القارئ العربي المعاصر. فعلى الرغم من شهرة دول كبرى مثل الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، إلا أنّ هناك دولًا إسلامية أخرى لعبت أدوارًا محورية في تشكيل الخريطة السياسية والثقافية للعالم الإسلامي، لكنها لم تنل نصيبها الكافي من التعريف والدراسة.
وفي هذه السلسلة التي تحمل عنوان «دول إسلامية لا تعرفها»، نحاول تسليط الضوء على نماذج تاريخية مؤثرة، كان لها حضور قوي في فترات مفصلية من التاريخ، وأسهمت في بناء الحضارة الإسلامية على مستويات متعددة. وتأتي الدولة السامانية في مقدمة هذه النماذج، بوصفها دولة إسلامية نشأت في قلب آسيا الوسطى، واستمرت قرابة قرنين من الزمان، وأسهمت في إحياء الثقافة الفارسية داخل الإطار الإسلامي، كما كان لها دور بارز في رعاية العلوم والفنون والأدب.
الخطوة الأولى: الجذور والنشأة وبدايات التحوّل
ينتسب السامانيون إلى جدّ الأسرة سامان خداه، وهو رجل فارسي الأصل، كان يعيش في إقليم خراسان، وتحديدًا في مدينة بلخ، التي تقع ضمن حدود أفغانستان الحالية. وكان لقب «خداه» يُطلق في ذلك العصر على أمراء المناطق ووجهاء القرى، ما يدل على المكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها سامان بين قومه.
في بداياته، كان سامان خداه يدين بالديانة المجوسية، وهي الديانة السائدة بين الفرس قبل الإسلام. غير أنّ الظروف السياسية والعسكرية في عصر الدولة الأموية، وبخاصة في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك، دفعت به إلى الاحتكاك المباشر بالسلطة الإسلامية. فقد شهد إقليم خراسان هجمات متكررة من الأتراك وبعض القوى المحلية، الأمر الذي دفع سامان إلى اللجوء إلى والي خراسان المسلم أسد بن عبد الله القسري طلبًا للحماية.
لاقى سامان معاملة حسنة من الوالي، الذي عُرف بعدله واستقباله للمظلومين من العرب والفرس على السواء. وكان لهذا الموقف أثر بالغ في نفس سامان، إذ أعلن إسلامه عن اقتناع، وسمّى أحد أبنائه باسم «أسد» تقديرًا للوالي. وبهذا التحول، بدأت قصة أسرة فارسية اعتنقت الإسلام، ثم ما لبثت أن أصبحت واحدة من أبرز الأسر الحاكمة في تاريخ العالم الإسلامي.
الخطوة الثانية: الصعود السياسي وبناء النفوذ
نشأ أبناء سامان خداه في ظل الدولة العباسية، وبرز منهم أسد بن سامان، الذي أصبح لاحقًا الأب المؤسس الفعلي للأسرة السامانية. وقد أنجب أسد أربعة أبناء هم: نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، وكان لهم جميعًا حضور سياسي وعسكري ملحوظ.
في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، واجهت الدولة تمردًا خطيرًا قاده رافع بن الليث في بلاد ما وراء النهر، واستولى خلاله على مدينة سمرقند. وعندما أُرسلت الجيوش العباسية لإخماد التمرد بقيادة هرثمة بن أعين، وقف أبناء سامان إلى جانب الدولة، وأسهموا بفعالية في هزيمة رافع بن الليث وإجباره على توقيع اتفاق سلام يعترف فيه بخضوع سمرقند للخلافة.
هذا الدور عزّز مكانة السامانيين لدى العباسيين، وازدادت ثقة الخلفاء بهم، لا سيما في عهد الخليفة المأمون، الذي قرّب أبناء أسد إليه، وكلفهم بإدارة ولايات كبرى في خراسان وبلاد ما وراء النهر. ومنذ تلك اللحظة، انتقل السامانيون من مرحلة الخدمة الإدارية والعسكرية إلى مرحلة الحكم الفعلي، ممهدين الطريق لقيام دولتهم المستقلة.
الخطوة الثالثة: الاستقلال الإداري والازدهار الحضاري
مع بداية القرن الثالث الهجري، تحوّل النفوذ الساماني إلى كيان سياسي شبه مستقل، ثم إلى دولة قائمة بذاتها عام 819م. ورغم اعترافهم الاسمي بالخلافة العباسية، فإنهم كانوا يتمتعون باستقلال كامل في شؤون الإدارة الداخلية، وتعيين الولاة، وتنظيم الجيش، وجمع الضرائب.
شهدت الدولة السامانية خلال هذه المرحلة توسعًا جغرافيًا كبيرًا، شمل خراسان وبلاد ما وراء النهر، وأجزاء واسعة من إيران وأفغانستان، وصولًا إلى حدود الهند. وكان هذا الاتساع مقرونًا باستقرار نسبي مكّن الدولة من التركيز على الجوانب الثقافية والعلمية.
تُعدّ الدولة السامانية إحدى الركائز الأساسية لما يُعرف بـالنهضة الفارسية الإسلامية، حيث شجعت استخدام اللغة الفارسية إلى جانب العربية، وأسهمت في إحياء التراث الفارسي ضمن الإطار الإسلامي. كما كانت بلاطهم مقصدًا لكبار العلماء والأدباء، ومن أبرزهم الشاعر رودكي، والفيلسوف والطبيب ابن سينا، إضافة إلى فردوسي الذي تأثر بالمناخ الثقافي الذي أسسه السامانيون.
الخطوة الرابعة: التقييم، عوامل الضعف، والسقوط
بلغت الدولة السامانية ذروة قوتها في القرن الرابع الهجري، غير أنّ عوامل الضعف بدأت تتسلل إليها تدريجيًا. فقد أدت الصراعات الداخلية بين الأمراء، وتزايد نفوذ القادة العسكريين، إلى إضعاف السلطة المركزية. كما واجهت الدولة ضغوطًا خارجية متزايدة من قوى صاعدة، أبرزها الغزنويون والقراخانيون، إضافة إلى تدخلات البويهيين في الشؤون الإقليمية.
بحلول عام 331هـ (942م)، دخلت الدولة مرحلة التراجع، وتقلّصت رقعتها الجغرافية بشكل ملحوظ. وفي عام 999م، سقطت العاصمة، وانتهى الحكم الساماني رسميًا، ثم قُتل آخر أمرائها بعد ذلك بعدة سنوات، لتطوى صفحة دولة إسلامية استمرت قرابة 180 عامًا.
ورغم سقوطها السياسي، فإن أثر الدولة السامانية ظل حاضرًا في التاريخ الإسلامي، سواء من خلال دورها في نشر الإسلام في آسيا الوسطى، أو إسهامها في بناء حضارة إسلامية جامعة بين العنصرين العربي والفارسي، وهو ما يجعلها نموذجًا مهمًا لدولة قد لا تكون معروفة على نطاق واسع، لكنها تركت بصمة عميقة في مسار التاريخ.
Elmoarekhh