أهلاً وسهلاً بك يا صديقي في رحلة جديدة عبر صفحات التاريخ، حيث نلتقي في سلسلة أشياء غيرت مجرى التاريخ. حديثنا في هذه الحلقة سيكون عن واحد من أخطر الأوبئة في التاريخ البشري وأشدها تأثيراً على مستوى العالم أجمع. إنه الوباء الذي أصاب أكثر من ربع سكان الكرة الأرضية في زمن لم يكن فيه العلم الحديث متطوراً بما يكفي للتعامل مع الأمراض الفتاكة، ولم تكن وسائل التواصل تنقل الحقيقة بسرعة كما نفعل اليوم.
قبل أكثر من قرن، انتشر وباء حصد أرواح ملايين البشر، وأحدث رعباً لم تعرف البشرية مثله. المرض الذي نتحدث عنه اليوم هو الإنفلونزا الإسبانية. لقد أصاب نحو 500 مليون نسمة في مختلف بقاع العالم، وما بين 17 إلى 50 مليون إنسان ماتوا بسبب هذا الوباء في تقديرات أكثرها واقعية، وقد تقدر بعض المصادر عدد الوفيات حتى 100 مليون. هذه الأرقام تجعل من الإنفلونزا الإسبانية واحدة من أكثر الكوارث الصحية تأثيراً في التاريخ الحديث.
في هذا المقال سنلقي نظرة معمقة ومبسطة على هذا الوباء في أربع خطوات رئيسية، لنفهم أصله، انتشاره، تأثيره، والدروس التي تعلمناها منه.
الأصل والاسم – لماذا سُميت بالإنفلونزا الإسبانية؟
يبدو من الاسم أن هذا الوباء نشأ في إسبانيا، لكن الحقيقة العلمية والتاريخية أكثر تعقيداً من ذلك. في الحقيقة، الوباء لم يبدأ في إسبانيا على الإطلاق. الدراسات التاريخية تشير إلى أن أول حالة موثقة ظهرت في قاعدة عسكرية في ولاية كانساس الأمريكية عام 1918، عندما حدث تفشي مرض يشبه الإنفلونزا بين الجنود هناك.
لكن لماذا إذن أطلق الناس عليها اسم “الإنفلونزا الإسبانية”؟
السبب يعود إلى الرقابة الصحفية خلال الحرب العالمية الأولى، حيث كانت معظم الدول المتحاربة تخفي الأخبار السيئة عن شعوبها للحفاظ على معنوياتها. بينما كانت الصحافة في إسبانيا حرة في تلك الفترة وتنشر أخبار المرض والإصابات بحرية، مما جعل العالم يربط هذا الوباء بإسبانيا ويطلق عليه الاسم الذي بقي حتى اليوم.
أما أصل الفيروس نفسه، فقد تبيّن لاحقاً أنه فيروس إنفلونزا من نوع H1N1، ينتمي إلى عائلة فيروسات الإنفلونزا “أ” التي تنتشر سريعاً وتتكيف بشكل كبير مع البشر والحيوانات.
إذن، الاسم لا يعني مكان النشأة، بل يعكس حقيقة إعلامية وتاريخية مرتبطة بسياق الحرب العالمية الأولى، وليس دلالة حقيقية على منشأ الفيروس.
الانتشار وطرق التفشي – كيف اجتاح العالم؟
في عام 1918، ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، كان العالم في حالة فوضى اجتماعية واقتصادية وصحية. كان هناك جيش ضخم يتحرك من مكان إلى آخر، وإمدادات قليلة من الغذاء، وظروف صحية سيئة في الخنادق والمعسكرات العسكرية. وجد هذا الفيروس فرصة مثالية للانتشار.
المرض انتشر سريعاً عبر الطرق التجارية والنقل العسكري، وظهر في أوروبا ثم بقية أنحاء العالم خلال أشهر قليلة. لقد أصاب حوالي نصف مليار شخص – أي ما يقارب ثُلث سكان العالم آنذاك.
الميزة الغريبة لهذا الوباء كانت التأثير غير المعتاد على الفئات العمرية. عادة ما تكون الإنفلونزا أكثر فتكاً بين كبار السن والأطفال، لكن في هذه الجائحة كان الشباب البالغون الأصحاء أكثر الفئات عرضة للوفاة، وهو ما أثار الدهشة في الأوساط العلمية حتى بعد مرور أكثر من مائة عام على الحادثة.
ظروف الحرب، حالة الزحام، سوء التغذية، النظافة السيئة، وعدم وعي الناس بكيفية الوقاية، كل هذه العوامل ساعدت على تسريع انتشاره ليصبح وباءً عالمياً في زمن قياسي قبل أن يتوفر العلم الحديث ووسائل الترابط الصحي التي نعرفها اليوم.
التأثيرات الإنسانية والاجتماعية – هل دفن العالم نصف ملياره؟
الأرقام تتفاوت وفقاً للمصادر، لكن كل المؤرخين يتفقون على أن هذا الوباء كان من أشد الكوارث الصحية في التاريخ الحديث. يعتقد معظم العلماء أن عدد الوفيات يصل إلى ما بين 50 و100 مليون إنسان حول العالم خلال سنتين فقط.
هناك تقديرات تشير إلى أن الجائحة قلّصت عدد سكان الأرض ما بين 2.5% إلى 5% خلال تلك الفترة.
تأثيرات الوباء لم تقتصر على الخسائر البشرية فقط، بل امتدت إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية في العديد من دول العالم. في بعض المدن أغلقت المدارس والمسارح والكنائس، وفرضت الحجر الصحي، وظهرت قوانين جديدة لتنظيم التجمعات العامة. حتى في بعض الدول، مثل مصر وقتها، أدى المرض إلى تغيير في نمط الحياة اليومية وتأجيل المناسبات العامة وتغيير عدة ممارسات اجتماعية.
إضافة إلى الخوف والرعب، أسفر الوباء عن تأثيرات نفسية عميقة على المجتمعات؛ فالعائلات فقدت أحبائها، والأسر تفككت، والاقتصادات المحلية انهارت بسبب توقف الإنتاج والقدرة الشرائية.
الدرس المرير هنا هو أن الأمراض المعدية، عندما تنتشر بدون رادع، يمكن أن تُحدث زلزالاً بشرياً يمتد تأثيره لسنين طويلة في المجتمع، تماماً كما رأينا في تفشي الأمراض الحديثة مثل كورونا في القرن الحادي والعشرين.
الدروس المستفادة – كيف غيّر هذا الوباء العالم؟
بعد أن انتهت موجات الإنفلونزا الإسبانية بنهاية عام 1920، تركت وراءها درراً من الدروس العلمية والطبية والمجتمعية التي غيّرت كثيراً من طريقة تعامل البشر مع الأوبئة.
أولاً، أدرك العلماء أهمية اكتشاف سبب المرض وكيفية علاجه، ما دفع لاحقاً إلى تطوير لقاحات الإنفلونزا الحديثة وتقنيات الوقاية التي نعتمد عليها اليوم.
ثانياً، تعلم العالم أهمية التعاون الدولي في تبادل المعلومات الصحية، لأن المعارك الإعلامية والحرب على الحقيقة يمكن أن تزيد من خطورة أي وباء كما حدث سابقاً.
ثالثاً، فرضت نهاية هذه الجائحة فكرة التدابير الوقائية البسيطة مثل العزل، النظافة الشخصية، وتقليل التجمعات، والتي ثبتت فعاليتها أيضاً في أوقات أوبئة لاحقة مثل الإنفلونزا الآسيوية، إنفلونزا الطيور، وحتى جائحة كوفيد-19 الأخيرة.
أخيراً، علمتنا هذه التجربة أن العلم لا يتقدم من فراغ، بل غالباً ما يكون في رد الفعل على أزمات كبرى، حيث دفعت الكارثة الإنسانية جهود البشر نحو تطوير الطب والفيروسات وطرق التصدي للأوبئة بمختلف أشكالها.
Elmoarekhh