في صباحٍ هادئ من صباحات العاصمة الفرنسية باريس، وبين جدران متحف اللوفر الذي يُعدّ جوهرة التراث الإنساني، وقعت واحدة من أكثر عمليات السرقة جرأةً في تاريخ أوروبا الحديث. عملية لم تستغرق سوى دقائق معدودة، لكنها هزّت أركان فرنسا ثقافيًا وأمنيًا، وأثارت ذهول العالم بأسره. إنها سرقة "المجوهرات التي لا تُقدّر بثمن" (Priceless Jewelry Theft)، التي استهدفت قطعًا نادرة من مجوهرات العائلة الإمبراطورية الفرنسية داخل قاعة “Gallery of Apollo” الشهيرة في متحف اللوفر.
هذه المجوهرات لم تكن مجرد زينة مرصّعة بالألماس والزمرد، بل كانت رموزًا لحقبة كاملة من التاريخ الفرنسي، تجسّد فخامة نابليون الثالث وزوجته الإمبراطورة أوجيني، وتُمثل رابطًا بين الفن والتاريخ والسياسة. ومع اختفائها المفاجئ في وضح النهار، لم يكن السؤال فقط "من سرقها؟"، بل "كيف حدث ذلك داخل أكثر المتاحف حراسةً في العالم؟".
تفاصيل عملية السرقة: دقائق قليلة... وصدمة كبرى
وفقًا لما أوردته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، فقد بدأت السرقة في تمام الساعة 9:30 صباحًا بتوقيت باريس (8:30 بتوقيت غرينتش)، أي بعد وقتٍ قصير من فتح المتحف أبوابه أمام الزوار. في ذلك التوقيت الذي يُفترض أن يسوده النظام والانضباط الأمني، تسللت عصابة مكوّنة من أربعة أشخاص، جميعهم يرتدون أقنعة، إلى داخل المتحف بطريقة محكمة ومخططة مسبقًا.
كيف دخلوا؟
تشير التحقيقات الأولية إلى أن اللصوص استخدموا سلّمًا ميكانيكيًا قابلًا للتمديد، تم تثبيته على مركبة متوقفة بالقرب من نهر السين، للوصول إلى نافذة في الطابق الأول المؤدي إلى قاعة “Gallery of Apollo”. بعد ذلك، استخدموا مناشير كهربائية تعمل بالبطاريات (Disc Cutters) لكسر النوافذ الزجاجية والدخول دون إثارة ضجة كبيرة.
ما الذي حدث داخل القاعة؟
بمجرد دخولهم، قام اثنان من أفراد العصابة بتهديد الحراس بالسلاح، فيما بدأ الآخران بتكسير صناديق العرض الزجاجية التي تحتوي على القطع الملكية. العملية برمّتها لم تستغرق أكثر من سبع دقائق وفقًا لتصريحات وزير الداخلية الفرنسي "لوران نونييز".
عند انتهاء السرقة، فرّ اللصوص بسرعة مذهلة على دراجات نارية (Mopeds) كانت تنتظرهم بالخارج، تاركين خلفهم فوضى كبيرة وقطعة واحدة سقطت منهم أثناء الهروب — كانت تلك القطعة تاج الإمبراطورة أوجيني الذي عُثر عليه لاحقًا بالقرب من المتحف.
ما حجم المسروقات؟
أكدت السلطات الفرنسية أن اللصوص سرقوا تسع قطع من المجوهرات الملكية التي تعود إلى القرن التاسع عشر، وكلها مرصعة بآلاف من الألماس والزمرد والأحجار الكريمة. ومن بين أبرز القطع:
بروش إمبراطوري يخص الإمبراطورة أوجيني.
زوج من الأقراط المرصعة بالزمرد الأخضر الفاخر.
أساور ذهبية وأحزمة ملكية تحمل رموز النسور النابليونية.
تاج الإمبراطورة أوجيني الذي وُصف بأنه تحفة فنية مكونة من 1,354 ماسة و56 زمردة.
ما بعد السرقة
فور وقوع الحادث، تم إخلاء متحف اللوفر بالكامل وإغلاقه أمام الزوار حتى إشعار آخر، بينما انتشرت قوات الأمن في محيط المكان، وبدأت تحقيقات عاجلة تحت إشراف المدعي العام في باريس.
وقد حاولت العصابة إشعال النار في المركبة التي استخدموها أثناء الهروب لإخفاء الأدلة، لكن أحد موظفي المتحف الشجعان تدخل وأحبط المحاولة قبل أن تندلع النيران، مما منح المحققين فرصة ثمينة لجمع الأدلة الجنائية.
القطع المسروقة: من المجوهرات إلى الرموز التاريخية
قيمة تتجاوز المال
رغم أن المجوهرات المسروقة تحتوي على مئات القيراطات من الألماس والأحجار النادرة، إلا أن قيمتها المادية لا تمثل سوى جزء ضئيل من قيمتها الفعلية. فكل قطعة من هذه المجموعة تحمل رمزية تاريخية وثقافية عميقة، إذ تعود إلى فترة الإمبراطورية الفرنسية الثانية (1852–1870) التي حكم خلالها نابليون الثالث.
تاج الإمبراطورة أوجيني على سبيل المثال، ليس مجرد قطعة فنية باهرة، بل رمز لعصر الرفاهية الإمبراطورية وللذوق الفرنسي الرفيع في تصميم المجوهرات الملكية. وقد صُمم التاج بزخارف على شكل نسور ذهبية ترمز إلى القوة والسيادة، وتحيط به مئات من الألماس الأبيض المتناثر حول زمردات ضخمة تشعّ بلونها الأخضر الملكي.
لماذا تُعدّ هذه السرقة "جريمة ثقافية"؟
وصف وزير الداخلية الفرنسي القطع المسروقة بأنها “ذات قيمة تراثية لا يمكن حسابها”، أي أن فقدانها لا يُعوّض حتى لو تم دفع ملايين الدولارات مقابلها. هذه السرقة لا تعني فقط فقدان أشياء ثمينة، بل فقدان أجزاء من هوية الأمة الفرنسية الممثلة في تاريخها ومجدها الإمبراطوري.
من الناحية القانونية، تعتبر مثل هذه الجرائم اعتداءً على التراث الوطني، وهو ما يجعل العقوبات أشد بكثير من جرائم السرقة العادية.
---
التحليل الأمني والثقافي للسرقة
ثغرات أمنية في أحد أكثر المتاحف حراسةً بالعالم
متحف اللوفر يُعتبر من أكثر المواقع حراسة في أوروبا، مجهز بأنظمة إنذار ومراقبة متطورة. لكن ما حدث كشف عن ثغرات بشرية وتنظيمية خطيرة.
كيف تمكّن اللصوص من معرفة نقطة الضعف في النافذة التي اخترقوها؟
هل حصلوا على معلومات داخلية من موظف سابق أو أحد المتعاملين مع المتحف؟
ولماذا لم تعمل أجهزة الاستشعار الزجاجية بالشكل الكافي عند كسر صناديق العرض؟
التحقيقات جارية للإجابة عن هذه الأسئلة، وقد أشار بعض الخبراء إلى احتمال أن تكون العصابة ذات خبرة دولية في سرقات المتاحف، وربما سبق لها تنفيذ عمليات مشابهة.
الأبعاد الثقافية
تجاوزت آثار هذه السرقة حدود فرنسا، إذ أثارت جدلاً عالميًا حول أمن المتاحف وحماية الموروثات الثقافية. العديد من المؤسسات المتحفية في أوروبا أعلنت عن مراجعة أنظمتها الأمنية.
كما أثارت الجريمة موجة من الحنين الشعبي في فرنسا، إذ شعر الفرنسيون أن جزءًا من تاريخهم قد انتُزع فجأة. وسائل التواصل الاجتماعي امتلأت بصور القطع المسروقة ورسائل الدعم لموظفي المتحف.
الخلاصة: عندما يُسرق التاريخ ومصدر ومعلومات إضافية
عملية سرقة متحف اللوفر لم تكن مجرد جريمة سرقة مجوهرات، بل كانت صفعة قوية للتراث الإنساني كله. في غضون دقائق معدودة، اختفت رموز ملكية تعود إلى قرنٍ ونصف من الزمان، وتركت وراءها أسئلة كبرى عن الأمن والثقافة والقيم الإنسانية.
ربما تُستعاد القطع يومًا ما، وربما لا. لكن المؤكد أن هذه الحادثة ستبقى علامة فارقة في تاريخ الجرائم الفنية، وستدفع العالم إلى إعادة التفكير في كيفية حماية كنوزه التي لا تُقدّر بثمن.
مصدر ومعلومات إضافية
لمن يرغب في قراءة التفاصيل الكاملة من المصدر الرسمي والاطلاع على الصور والتحقيقات المحدثة التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، يمكنه زيارة الرابط التالي.
المقال يحتوي على تحديثات مباشرة من الجهات الأمنية الفرنسية وتحليلات لخبراء الفنون والثقافة حول تأثير الحادث على المتاحف العالمية، بالإضافة إلى تصريحات وزير الداخلية الفرنسي لوران نونييز وتصريحات إدارة متحف اللوفر الرسمية.